كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَقُولُ: هَذَا أَقْوَى وَأَوْسَعُ مَا أَجَابُوا بِهِ عَنِ الْآيَةِ قَدْ لَخَّصَهُ أَحْفَظُ الْحُفَّاظِ وَأَوْسَعُهُمُ اطِّلَاعًا، وَكُلُّهُ سَاقِطٌ عَلَى جَلَالَةِ قَائِلِيهِ، وَفِي سُقُوطِهِ أَكْبَرُ حُجَّةٍ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الْعِلْمَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالْإِنْصَافِ، بِزَعْمِ أَنَّ مَشَايِخَهُمْ وَأَئِمَّتَهُمْ أَحَاطُوا بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، حَتَّى فِيمَا خَالَفَهُمْ فِيهِ أَمْثَالُهُمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَنْ فَوْقَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: وَلَسْنَا نُسْقِطُهُ بِنَظَرِيَّاتٍ اجْتِهَادِيَّةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا، وَإِنَّمَا نُسْقِطُهُ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى عِنْدَ الْبَحْثِ فِي تَأْيِيدِ مَذْهَبِهِمْ وَالِاحْتِجَاجِ لَهُ- وَذَلِكَ أَظْهَرُ مَوَاضِعِ الْعِبْرَةِ- وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ مِنْ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ قَدْ تَقَرَّرَ مَضْمُونُ مَعْنَى الْحَصْرِ فِيهَا فِي آيَةِ النَّحْلِ الْمَكِّيَّةِ [16: 115] وَآيَةِ الْبَقَرَةِ الْمَدَنِيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ حَتْمًا فَلَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا الْحَافِظُ آنِفًا عَلَى عِلَّاتِهَا، وَلَعَلَّهُ لَوْلَا نَصْرُ الْمَذْهَبِ لَمَا نَسِيَ الْحَافِظُ هَذَا عِنْدَ النَّقْلِ، وَلَا تَأْيِيدُ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ لِلْحَصْرِ فِيهَا وَرَدُّهُ عَلَى الْجُمْهُورِ، وَهَذَا نَصُّ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [2: 172، 173] لَفْظُ {إِنَّمَا} يُفِيدُ الْحَصْرَ وَلَا يَأْتِي فِيهِ شَيْءٌ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي تَكَلَّفُوهَا فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا حَتَّى جَعَلُوا الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ عَلَى عَكْسِ الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي يُؤَيِّدُ جَرَيَانَهَا فِي الْآيَةِ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ. وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ فِي التَّعْبِيرِ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ عَنِ الْحَصْرِ بِالْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ الْعَامِّ الْمُسْتَغْرِقِ، وَفِي آيَتَيِ النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ بِـ {إِنَّمَا} لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ تَعَرَّضَ لَهَا، وَإِنَّمَا أَخَذْتُهَا مِنْ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ لِإِمَامِ عُمُومِ الْبَلَاغَةِ وَوَاضِعِهَا الشَّيْخِ عَبَدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيِّ فَنُلَخِّصُ قَوْلَهُ فِيهَا مَزِيدًا فِي الْبَيَانِ، وَدَقَائِقِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ.
قَالَ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} النَّصْبُ فِي الْمَيْتَةِ هُوَ الْقِرَاءَةُ وَيَجُوزُ {إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمْ} قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنْ تَكُونَ مَا هِيَ الَّتِي تَمْنَعُ إِنَّ مِنَ الْعَمَلِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى: مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْمَيْتَةَ لِأَنَّ إِنَّمَا تَأْتِي إِثْبَاتًا لِمَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا وَنَفْيًا لِمَا سِوَاهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ أَنَّ بَيْنَ الْحَصْرَيْنِ فَرْقًا لَا يُنَافِيهِ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنَ الصِّيغَتَيْنِ لِلْحَصْرِ وَأَوْرَدَ أَمْثِلَةً لِذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَكَانِ الْآخَرِ. ثُمَّ قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ مَوْضُوعَ إِنَّمَا عَلَى أَنْ تَجِيءَ لِخَبَرٍ لَا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُ وَلَا يَدْفَعُ صِحَّتَهُ أَوْ لِمَا يَنْزِلُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ. تَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ لِلرَّجُلِ: إِنَّمَا هُوَ أَخُوكَ وَإِنَّمَا هُوَ صَاحِبُكَ الْقَدِيمُ. لَا تَقُولُهُ لِمَنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَيَدْفَعُ صِحَّتَهُ وَلَكِنْ لِمَنْ يَعْلَمُهُ وَيُقِرُّ بِهِ إِلَّا أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تُنَبِّهَهُ لِلَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ الْأَخِ وَحُرْمَةِ الصَّاحِبِ.
وَمِثَالُهُ مِنَ التَّنْزِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [36] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [36: 11] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [79: 45] كُلُّ ذَلِكَ تَذْكِيرٌ بِأَمْرٍ مَعْلُومٍ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَكُونُ اسْتِجَابَةٌ إِلَّا مِمَّنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهُ وَيُدْعَى إِلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يَعْقِلْ لَمْ يَسْتَجِبْ وَكَذَلِكَ مَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْذَارَ إِنَّمَا يَكُونُ إِنْذَارًا وَيَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ إِذَا كَانَ مَعَ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيَخْشَاهُ وَيُصَدِّقُ بِالْبَعْثِ وَالسَّاعَةِ، فَأَمَّا الْكَافِرُ الْجَاهِلُ فَالْإِنْذَارُ وَتَرْكُ الْإِنْذَارِ مَعَهُ وَاحِدٌ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَمْثِلَةٍ أُخْرَى:
وَأَمَّا الْخَبَرُ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ نَحْوُ: مَا هَذَا إِلَّا كَذَا، وَإِنْ هُوَ إِلَّا كَذَا، فَيَكُونُ لِلْأَمْرِ يُنْكِرُهُ الْمُخَاطَبُ وَيَشُكُّ فِيهِ. فَإِذَا قُلْتَ: مَا هُوَ إِلَّا مُصِيبٌ، أَوْ مَا هُوَ إِلَّا مُخْطِئٌ- قُلْتَهُ لِمَنْ يَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتَهُ. وَإِذَا رَأَيْتَ شَخْصًا مِنْ بَعِيدٍ فَقُلْتَ: مَا هُوَ إِلَّا زَيْدٌ- لَمْ تَقُلْهُ إِلَّا وَصَاحَبُكَ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزَيْدٍ وَأَنَّهُ إِنْسَانٌ آخَرُ وَيَجِدُ فِي الْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ زَيْدًا ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ أَمْثِلَةٍ ظَاهِرَةٍ فِي الْقَاعِدَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى حِكَايَةً لِقَوْلِ الْكُفَّارِ لِرُسُلِهِمْ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [14: 10] إِنَّمَا جَاءَ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ دُونَ إِنَّمَا مَعَ أَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الرُّسُلَ كَأَنَّهُمْ بِادِّعَائِهِمُ النُّبُوَّةَ قَدْ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ بَشَرًا مِثْلَهُمْ وَادَّعَوْا أَمْرًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ هُوَ بَشَرٌ. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أُخْرِجَ اللَّفْظُ مَخْرَجَهُ حَيْثُ يُرَادُ أَمْرٌ يَدْفَعُهُ الْمُخَاطَبُ وَيَدَّعِي خِلَافَهُ. ثُمَّ جَاءَ الْجَوَابُ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [14: 11] كَذَلِكَ بِإِنْ وإِلَّا دُونَ إِنَّمَا- لِأَنَّ مِنْ حِكَمِ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ خَصْمُهُ الْخِلَافَ فِي أَمْرٍ هُوَ لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَنْ يُعِيدَ كَلَامَ الْخَصْمِ عَلَى وَجْهِهِ وَيَحْكِيهِ كَمَا هُوَ اهـ. مُلَخَّصًا مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِي مَسَائِلِ إِنَّمَا وَصَرَّحَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي بِأَنْ إِنَّمَا تُفِيدُ فِي الْكَلَامِ بَعْدَهَا إِيجَابَ الْفِعْلِ لِشَيْءٍ وَنَفْيَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَطَالَ فِي الْأَمْثِلَةِ وَشَرْحِهَا كَعَادَتِهِ.
وَهَذَا التَّحْقِيقُ يَنْطَبِقُ عَلَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي حَصْرِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ فَآيَةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا جَاءَتْ فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا افْتَرَوْهُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ، مَعَ ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُ حَرَّمَهُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ تَعَالَى. كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ- فَجَاءَ حَصْرُ التَّحْرِيمِ فِيمَا ذُكِرَ فِيهَا بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَلُونَهُ وَيُنْكِرُونَهُ، عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ وَلِذَلِكَ فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهُ مِنَ السُّورَةِ: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [6: 119] وَلَمْ يُفَسَّرْ بِآيَةِ النَّحْلِ مَعَ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ الْأَنْعَامَ نَزَلَتْ قَبْلَ النَّحْلِ، ثُمَّ جَاءَتْ آيَةُ النَّحْلِ بِإِنَّمَا عَلَى قَاعِدَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلنَّاسِ كَافَّةً مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ وَإِنْ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِلَّا كَانَ جَعْلُهَا الْتِفَاتًا إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَرْجَحَ مِنْ جَعْلِهَا خَاصَّةً بِخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهَا مَعَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا كَآيَتَيِ الْبَقَرَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَيَانَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي السُّورَتَيْنِ جَاءَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِأَكْلِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ الَّذِي يَقْتَضِي إِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ. وَهَذَا نَصُّهُمَا {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [16: 114، 115] وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنَّهَا خِطَابٌ لِلنَّاسِ كَافَّةً لِمُنَاسَبَةِ السِّيَاقِ، وَلِأَنَّ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ قَدْ جَاءَتَا بَعْدَ آيَةٍ فِي خِطَابِ النَّاسِ كَافَّةً وَهِيَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} فَتَكُونُ آيَتَا النَّحْلِ بِمَعْنَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي الْبَقَرَةِ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ وَالْإِيجَازُ فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ كَالْإِطْنَابِ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ كُلٌّ مِنْهُمَا مَعْهُودٌ، وَبَيَّنَّا سَبَبَهُ مِنْ قَبْلُ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ الْأُولَى مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي تَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ أُنْزِلَتْ بَيَانًا لِحُكْمِ اللهِ فِي سِيَاقِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِمَضْمُونِهِ. بِمَا كَانُوا يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ بِأَهْوَائِهِمْ وَيَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى- كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَقَهَا بَيَانٌ مِنَ الْوَحْيِ فِي ذَلِكَ فَجَاءَتْ بِحَصْرِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى الْقَاعِدَةِ، ثُمَّ أُنْزِلَتْ آيَةُ النَّحْلِ مُؤَكِّدَةً لِمَضْمُونِهَا فِي خِطَابِ النَّاسِ كَافَّةً وَهُمْ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ فِي سِيَاقِ مِنَّةِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَمُطَالَبَتِهِمْ بِشُكْرِهَا فَإِنَّ سُورَةَ النَّحْلِ هِيَ السُّورَةُ الَّتِي خُصَّ أُسْلُوبُهَا بِسَرْدِ نِعَمِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ ثُمَّ أُنْزِلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مُؤَكِّدَةً لِمَضْمُونِ آيَةِ النَّحْلِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، وَعُبِّرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الْحَصْرِ بِإِنَّمَا عَلَى الْقَاعِدَةِ لِأَنَّ هَذَا الْحَصْرَ كَانَ مَعْرُوفًا وَمُقَرَّرًا بِآيَةِ الْأَنْعَامِ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَعْدَ هَذَا التَّأْكِيدِ الْمُكَرَّرِ بِصِيغَتَيِ الْحَصْرِ وَمِمَّا سَيَأْتِي أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَابِلًا لِلنَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَلَا التَّخْصِيصَ، فَهِيَ نَفْسُهَا مُخَصِّصَةٌ لِلْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى إِبَاحَةِ مَنَافِعِ الْأَرْضِ كُلِّهَا لِلنَّاسِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا الْحِلُّ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ تَخْصِيصٌ آخَرُ لِذَلِكَ وَلَا فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هُنَالِكَ أَخْبَارٌ آحَادٌ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةَ النَّصِّ وَلَا الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ كَمَا عَلِمْتَ- وَأَشْهَرُهَا وَأَقْوَاهَا حَدِيثُ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ الَّذِي قَالَ فِيهِ الزُّهْرِيُّ- أَحَدُ أَرْكَانِ رُوَاتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ التَّابِعِينَ بِالسُّنَّةِ فِي وَطَنِهَا الْأَعْظَمِ وَهُوَ الْحِجَازُ- إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِهِ فِي الْحِجَازِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الشَّامَ سَمِعَهُ مِنْ أَحَدِ فُقَهَائِهَا فَكَيْفَ حُرِّمَ ذَلِكَ فِي الْحِجَازِ وَبُلِّغَ لِلنَّاسِ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ فِيهِ وَبَقِيَ إِلَى زَمَنِ الرِّوَايَةِ وَالتَّدْوِينِ خَفِيًّا عَنْ مِثْلِ الزُّهْرِيِّ فِي سَعَةِ عِلْمِهِ وَعِنَايَتِهِ بِالرِّوَايَةِ؟ وَمَذْهَبُ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ وَأَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ؛ لِأَنَّ النَّاسِخَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمَنْسُوخِ فِي الْقُوَّةِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ. قَالَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ: وَهَذَا مِمَّا قَضَى بِهِ الْعَقْلُ، بَلْ دَلَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَنْسَخُوا نَصَّ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَنَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ، مِنْهُمُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَصَاحِبُ التَّقْرِيبِ وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي اللُّمَعِ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْكِفَايَةِ، وَلَكِنْ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ وُقُوعَهُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ أَخْبَارَ الْآحَادِ فِي تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالسِّبَاعِ مُخَصَّصَةً لِعُمُومِ حِلِّ مَا عَدَا الْأَرْبَعَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَى حَصْرِ التَّحْرِيمِ فِيهَا، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ بِتَخْصِيصِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِلْكِتَابِ، وَمَنَعَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا، وَأُنَاسٌ آخَرُونَ بِقُيُودٍ مَعْرُوفَةٍ فِي مَوَاضِعِهَا. وَرُدَّ بِأَنَّ هَذَا نَسْخٌ لَا تَخْصِيصٌ، وَجَزَمَ بِذَلِكَ الرَّازِيُّ وَيُؤَيِّدُهُ بَعْضُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَهُمَا كَكَوْنِ التَّخْصِيصِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمَخْصُوصِ وَالنَّسْخُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بَيَانِ مَا أُرِيدَ بِالْعُمُومِ، وَأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُمُومِ عِنْدَ الْخِطَابِ مَا عَدَاهُ، وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ عُمُومَ إِبَاحَةِ مَا عَدَا الْأَنْوَاعَ الْأَرْبَعَةَ كَانَ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالسِّبَاعِ كَانَ فِي أَوَاخِرِ سِنِي الْهِجْرَةِ بِخَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَلَوْ أَرَادَ اللهُ تَخْصِيصَهُ عِنْدَ إِنْزَالِ آيَةِ الْمَائِدَةِ لَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، وَلَمَا أَكَّدَهُ بَعْدَهَا مِرَارًا.
وَقَدْ أَطْنَبَ الرَّازِيُّ فِي تَقْرِيرِ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى الْحَصْرِ وَكَوْنِهَا مُحَكَمَةً بَاقِيَةً عَلَى عُمُومِهَا وَدَفَعَ مَا أَوْرَدُوهُ عَلَيْهَا، وَزَادَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَوْنِ التَّحْرِيمِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الْوَحْيِ، وَكَوْنُ الْوَحْيِ قَرَّرَ هَذَا الْحَصْرَ، وَأَكَّدَ آيَةَ الْأَنْعَامِ فِيهِ بِآيَتَيِ النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ- أَنْ جَعَلَ آيَةَ أَوَّلِ الْمَائِدَةِ مُؤَكِّدَةً لِتَقْرِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} مَعَ إِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْمُرَادِ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ قَوْلُهُ بَعْدَ آيَةٍ أُخْرَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إِلَخْ. قَالَ: فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى هَذَا الْحُكْمِ وَعَلَى هَذَا الْحَصْرِ.
وَأَقُولُ: إِنَّنَا مَا تَرَكْنَا ذِكْرَ آيَةِ الْمَائِدَةِ فِيمَا كَتَبْنَا قَبْلَ مُرَاجَعَةِ كَلَامِهِ نِسْيَانًا لَهَا، بَلْ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِنَا حِينَئِذٍ مِنْ مَعْنَاهَا إِلَّا الْمَشْهُورُ فِي تَفْسِيرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَفْسُ الْأَنْعَامِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهَا مِنْ قَبِيلِ شَجَرِ الْأَرَاكِ أَوْ بِمَعْنَى الْبَهِيمَةِ الْمُشَابِهَةِ لِلْأَنْعَامِ، قَالُوا: أَيْ فِي الِاجْتِرَارِ وَعَدَمِ الْأَنْيَابِ كَالظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَهُوَ لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْإِضَافَةِ، وَبَعْدَ مُرَاجَعَةِ كَلَامِهِ تَذَكَّرْنَا أَنَّنَا قَدِ اخْتَرْنَا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّشْبِيهِ كَوْنُهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، أَيْ مَا يَسْتَطِيبُهُ النَّاسُ فِي مَجْمُوعِهِمْ وَإِنْ عَافَهُ أَفْرَادٌ أَوْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ، فَقَدْ عَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَ الضَّبِّ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ؛ وَبِهَذَا تَكُونُ آيَةُ الْمَائِدَةِ مُؤَيِّدَةً لِلْحَصْرِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ آخِرُ السُّورِ نُزُولًا، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ، فَكُلُّ مَا خَالَفَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهَا فَهُوَ الْمَنْسُوخُ بِمَا فِيهَا؛ إِذْ كَانَ نُزُولُهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنَ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالسُّبَاعِ كَانَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ آيَةِ الْبَقَرَةِ- إِنْ صَحَّ أَنَّهُ بَعْدَهَا وَأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ التَّخْصِيصِ لَا النَّ‍سَخِ- تَكُونُ آيَةُ الْمَائِدَةِ نَاسِخَةً لَهُ لِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ حَتْمًا.
وَالْأَرْجَحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا: أَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْ طَعَامٍ غَيْرِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي حَصَرَتِ الْآيَاتُ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِيهَا، فَهُوَ إِمَّا لِلْكَرَاهَةِ وَإِمَّا مُؤَقَّتٌ لِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَمِيرِ، وَمَا وَرَدَ مِنْهُ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ فَهُوَ مَرْوِيٌّ بِالْمَعْنَى لَا بِلَفْظِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. وَلَيْسَ مُرَادُ مَنْ رَدَّ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ بِآيَةِ الْأَنْعَامِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ تَحْرِيمَ مَا حَرَّمَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا فِي الْقُرْآنِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَرِّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا جَاءَ نَصُّ الْقُرْآنِ الْمُؤَكِّدُ بِحِلِّهِ. وَاعْتُبِرَ هَذَا بِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عِيسَى بْنِ نُمَيْلَةَ الْفَزَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَسُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْقُنْفُذِ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «خَبِيثَةٌ مِنَ الْخَبَائِثِ» فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فَهُوَ كَمَا قَالَ اهـ. فَقَوْلُهُ: إِنْ كَانَ مُشْعِرٌ بِشَكِّهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ إِنْ فُرِضَ أَنَّهُ قَالَهُ وَجَبَ قَبُولُهُ لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ، وَلَكِنْ بِمَعْنَى أَنَّهُ خَبِيثٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ كَالثُّومِ وَالْبَصَلِ. عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ. وَيَكْثُرُ فِي أَحَادِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى وَالْإِرْسَالِ، لِأَنَّ الْكَثِيرَ مِنْهَا قَدْ سَمِعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَكَذَا مِنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ لَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا تَكْثُرُ فِيهَا الْعَنْعَنَةُ.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ إِلَى تَحْرِيمِ مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ لِضَرَرِهِ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ وَالْفَأْرَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَهُنَّ الْفَوَاسِقُ الْخَمْسُ، وَكَذَا الْحِدَأَةُ وَالْوَزَغُ، أَوِ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِ كَالنَّمْلِ وَالنَّحْلِ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ وَالضُّفْدَعِ وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ عَدَمِ دَلَالَةِ الْأَمْرِ بِالنَّهْيِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ؛ إِذِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْحَيَوَانِ الضَّارِّ لِاتِّقَاءِ ضَرَرِهِ لَا يُنَافِي جَوَازَ قَتْلِهِ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهِ بِالْأَكْلِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَلَوْ لَمْ تَدُلَّ الدَّلَائِلُ الْعَامَّةُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ وَقَدْ دَلَّتْ!
وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِ عَبَثًا أَوْ لِغَرَضٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ لَا يُنَافِي جَوَازَ قَتْلِهِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ بِالْأَكْلِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْقَطْعِيَّةِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهَا حَظْرُ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ وَالتَّمْثِيلِ بِهِ، فَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا أَوْ دَجَاجَةً يَتَرَامُونَهَا وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ فَلَّمَا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا فَقَالَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا. وَالْغَرَضُ بِالتَّحْرِيكِ مَا يَنْصِبُهُ الرُّمَاةُ وَيَرْمُونَ إِلَيْهِ لِلتَّمَرُّنِ عَلَى الْإِصَابَةِ بِالسِّهَامِ وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ وَعَنِ الْوَسْمِ فِيهِ، وَأَنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: «لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ» وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَارَبِّ إِنَّ فُلَانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي مَنْفَعَةً» وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَيْضًا وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا: «مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلَّا سَأَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: «يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا وَلَا يَقْطَعُ رَأْسَهَا فَيَرْمِي بِهَا» وَالْأَحَادِيثُ فِي الرِّفْقِ بِالْحَيَوَانِ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُ- دَعْ تَرْكَ إِيقَاعِهِ بِهِ- كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ، وَمِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّتِي عَذَّبَهَا اللهُ فِي النَّارِ بِحَبْسِ الْهِرَّةِ حَتَّى مَاتَتْ، وَحَدِيثُ الْبَغِيِّ (الْمُومِسِ) الَّتِي غَفَرَ اللهُ لَهَا إِذْ رَحِمَتْ كَلْبًا عَطْشَانَ بِإِخْرَاجِ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ بِنَعْلِهَا حَتَّى سَقَتْهُ. وَلابد لِكُلِّ نَهْيٍ خَاصٍّ عَنْ قَتْلِ حَيَوَانٍ مُعَيَّنٍ مِنْ سَبَبٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ، فَالْعَامُّ كَتَعَوُّدِ النَّاسِ قَتْلَ بَعْضِ الْحَشَرَاتِ احْتِقَارًا لَهَا بِأَدْنَى سَبَبٍ كَقَتْلِ النَّحْلِ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْعَسَلِ أَوِ السُّكَّرِ وَكَذَا النَّمْلُ، وَالْخَاصُّ كَالَّذِي قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ فِي سَبَبِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الصُّرَدِ وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَشَاءَمُ بِهِ فَنُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ لِيَزُولَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنِ اعْتِقَادِ التَّشَاؤُمِ.